الاثنين، 14 مارس 2016

عجبا لها ...................... في النار ولا تحترق !!!




رأيُتها بيضاءَ يُزري ببياضِ السحابِ بياضُهَا ، ويسخَرُ من طلعةِ الصبحِ نورُها ،ولكني فجعتُ وقد رايتُها وهي محاطةٌ بكل أولئك السوداواتِ ممن يوحي لكَ منظَرُهُنَّ بالرعبِ وتخلَعُ شدَّةُ ظلمَةِ وجوهِهِنَّ قلبَكَ من مكانِهِ، فما وجدتُ نفسيَ إلا وهي تصرخُ بها: - ويحَكِ ؟ ما الذي أتى بكِ إلى هذا المكانِ القفْرِ أما تخافينَ علىَ نقاءِكِ من التدنيسِ أو على طُهرِكِ من التلويثِ .

فهتفتْ بي قائلةً : لقد شددت علىَّ النكيرَ وما عدلْتَ ،  أنا يا هذا في الفضيلةِ نشأتُ وعلى أحسنِ خَلقٍ خلقت، ألم تسمع بتلكَ التي وَصَفَها الرافِعِيُّ سيدُ أدباءِ العربيَّةِ في عصِْركُم في كتابِهِ (( وَحْيُ القلَمِ )) فقال عنها أنها ((في النارِ ولا تحتَرِق((، فأنا مثـلُها ، ((في السَّوادِ و لا أتلَطَّخ)) .

فقلت لها : لقد قادكِ فكرُكِ إلى أسوأِ مثلٍ و أحَطِّ قدوةٍ ، ألا ترينَ أن تأسِّيكِ بتلكَ هي أولى سَقَطَاتُكِ ، ولئن وَجَدَ لها الرافعيُّ- عفا الله عنا وعنه- عذراً، إذ ألجأتها حاجَتُها إلى أن تعمَلَ راقصةً في الحاناتِ ثم تعودُ إلى محرابِها بعد ذلك عابدةً متبتِّلة، فأنّى لكِ العذرُ ولم يلحقْكِ منَ العوَزِ ما لَحِقَها، ولم يصبْكِ من الجَهْلِ بحرمَةِ ما تفعَلُهُ وتناقُضِهِ وتهافُتِهِ ما أصابَهَا .

قالت لي: أنا ممنْ لا يلبثنَ إذا حللنَ مكاناً حتى يُحِلنَ ِليلَهُ نهاراً، وظلمتَهُ نوراً ، أنا ممن وصفهُنَّ داعيةٌ موفَّقٌ من أهلِ زمانِكَ وبلادِكَ فقال عني وعمن أشبهنني من ناشراتِ النورِ في حالِكِ الظلَمِ ، و حاملاتِ الشذَى إلى الأنوفِ التي أزكمتها روائح المعاصي ،متعجباً مني ومنهن : - ((ما أقوى شخصيتها)) ، فاستمع إليه إن شئت   :-


لكي تعلمَ أنني ما جئتُ هنا إلا وأنا خبيرةٌ بما اصنعُ ، قلت لها : ولكنَّي والله لا أُراك إلا على شفا هلكةٍ وفي بدايةِ طريقِ غواية .

تركتُهَا وقد أعياني الحديثُ معها وعرفتُ أنها لن تصمِدَ فهيهاتَ هيهاتَ، لقد تذكرتُ أولئكَ البائسينَ ممن رأيتُ وعرفتُ، يعيشونَ المآسي والموبقاتِ لأنهم يعيشونَ وسطَ أصحابِها فأنَّى لهم منها الفكاك، وتنصحُ احدهم أن يرعَوِيَ عمَّا هو فيه فلا يوليكَ إلا أُذُناً صماءَ وقلباً أغلَفَ ومنطقَاً عنِ الحقِّ أخرس.

وغيرهم أشدُّ إيلاماً لنفسيَ من أولئكَ ، تنشَّقوا عبيرَ الهدايةِ واشتعلت في قلوبهم شموعُ الرشادِ وبدأت بشاشةُ الإيمانِ تخالطُ قلوبَهُم و بدأت رحماتُ ربهم تسري في مساربِ أرواحهِم كما يَسرِي الماءُ الرقراقُ في عروقِ الوردةِ الفيحاءِ، أو كما يسري ماءُ الشبيبةِ في محيّا الفتى اليافع ، فلا يلبثُ من كانوا يصاحبونهم أيامَ غفلتهم حتى يُغرونَهُم بالعودةِ إليهم ، فإن رأوا منهم تمنُّعاً وصلابَةً قالوا لهم:- ويلكم لمن تتركوننا ، تعالوا معنا وأرشدونا إلى ما أرشدكُمُ اللهُ إليه ، وهم يضمِرُونَ لهم أن يعيدوهم إلى أسوإ مما كانوا عليه ، فما يمرُّ من الأيامِ إلا اقلُّها حتى تراهم قد نكَصُوا على أعقابِهِم بعد أن أراهم اللهُ من أنوارِ الهدى ما كانوا يحبونَ.

ولستُ أرى لحالِهِم شبهاً إلا ذاكَ الذي سَمِع بقومٍ يكادون يهلكونَ غرقاً في لجةِ البحرِ ، فهبَّ لإنقاذهِم على قاربٍ تكفؤُهُ الريحُ ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمالِ وقد مضى وحدهُ دونَ زادٍ ولا مُعين، فحريٌّ به إذا وصل إليهم - إن وصل - أن يقَعَ معهم وان يغرقوه بدَلَ أن يستنقِذَهُم، فمن أَرادَ أن يُنقذَ قوماً من الغرَقِ ، اتخَذَ له من الأَعوانِ من يعينه ويسدِّدُه وهم الصحبةُ الصالحةُ ، واتخذَ له مركباً يحملُهُ ومعاونيهِ و أولئك المشرفين على الغرق، والمركبُ هو الإيمانُ باللهِ ، واتخذَ زاداً يكفي الجميعَ وهو العلمُ بكتابِ اللهِ وبما انزَلَ اللهُ على رسولِهِ صلى الله عليه وسلم .

مرت بي السنونُ سراعاً ثم طافت بيَ ذكرى تلكُمُ التي حدثتكُم عنها فما تركتني نفسيَ اللجوجُ حتى عزمتُ أن أعودَ إلى المكانِ الذي قد رأيتُها فيه أولَ مرَّةٍ ، وقد تيقنت كلَّ اليقينِ أنها قد استحالَت إلى مثلِ ما عليهِ صويحِبَاتِها ،فأنى لها الثباتُ في تلكُمُ المهالِكِ.


وما إن أطللتُ على تيكَ الديارِ حتى رايتُها وقد نشرَتِ الضِّياء في جميع من حولها حتى أنني لم أدرِ أيتهُنَّ صاحبتِيَ التي تحدَّتـنِي ، وفي تلك اللحظة تذكرت قول حبيبي :-

صلَّى عليه اللهُ ما سَكَنَ الدُّجَى *** وانهلَّـتِِ الدَّمعاتُ في الأسحارِ

.

.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
إذ سماها نورا فقال -: ((لا تنتفوا الشيب ؛ فإنه نور يوم القيامة ،من شاب شيبة ؛ كتب الله له بها حسنة ، وحط عنه بها خطيئة ، ورفع له بها درجة)) (1)




يقول الوزير الأندلسي أبو بكر بن زهر :-

إنــي نـظــرت إلــى الــمــرآة إذ جُـلــيــت***
 فـأنـكــرت مـقـلـتــاي كــل مـــا رأتـــا

رأيــت فـيـهــا شُـيـيـخــاً لـســتُ اعـرفُــهُ***
وكـنــتُ أعـهــدُ فـيـهــا قـبــلَ ذاكَ فـتــى

فـقـلـت أيــنَ الــذي بـالأمــسِ كــانَ هـنــا***
 مـتـى تـرحَّــل عــن هــذا الـمـكــانِ متــى

فـاسـتـجـهـلـتـنـي وقـالـت لـي ومـا نـطـقـت***
قـــد كـــان ذاك وهـــذا بــعــد ذاك أتـــى

كـان الـغـوانــي يـقـلــنَ يــا أخــي ولـقــد***
 صـار الـغـوانــي يـقُـلــنَ الـيــومَ يــاأَبـتــا


والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
=======================
(1) الراوي: أبو هريرة - خلاصة الدرجة: حسن صحيح - المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الترغيب - الصفحة أو الرقم:2096

---------------------------------------------------------